طرق التدريس بالمغرب في العصر الوسيط

طرق التدريس بالمغرب في العصر الوسيط

بواسطة - محمد بوشريط
عدد الردود: 0

أقدم كتاب ألف بالأمازيغية في الدين كان في القرن الثالث الهجري

تنوعت طرق التدريس بالمغرب في العصر الوسيط من أستاذ لآخر، حسب تجاربهم الشخصية وتكوينهم العلمي والمستوى الدراسي لطلابهم، وحسب المواد الدراسية التي يلقنونها، ورغم هذا التنوع كان جل المدرسين يراعون في دروسهم بعض المبادئ التربوية التي أثبتت فعاليتها، والمعروفة لدى مؤلفي الأدبيات التربوية، كالتي ذكرها ابن خلدون في المقدمة، مثل التدرج في التعليم من البسيط إلى المعقد، وتبسيط المعلومات لتقريبها لأفهام المتعلمين، كما كانوا يعملون على تحبيب الدراسة للطلاب بطرق مختلفة، ويحاولون ألا تكون دروسهم مرهقة أو مملة لطلابهم، فيعمدون إلى تطريزها ـ حسب تعبير المصادر ـ بالاستطرادات والإنشادات المتنوعة والحكايات التي يعتبرونها جندا من جنود الله، فتصبح بعض حلقات الدروس ''نزهة للسامعين'' كما كانوا يعملون على إذكاء المنافسة بين المتعلمين، وإسداء النصح لهم.


أما الطريقة الأساسية للتدريس، فقد كانت حصة التدريس تنطلق من كتاب معين في المادة المدروسة، ويكلف أنجب الطلاب في الحلقة بتلاوة النص، وهو المعروف بقارئ المجلس، ولهذا أصبح مدلول القراءة مرادفا لمدلول الدراسة بالمغرب الوسيط. ويعلل ابن خلدون اعتماد هذه الطريقة لدى العجم بالضعف اللغوي لديهم، ''ولهذا نجد علماء الأعاجم في دروسهم ومجالس تعليمهم يعدلون عن نقل التفاسير من الكتب إلى قراءتها ظاهرا، يخففون بذلك عن أنفسهم مؤونة بعض الحجب ليقرب عليهم تناول المعاني''. وتختلف طريقة تعامل المدرسين بعد ذلك مع النص المقروء، حسب طبيعة المادة المدرسة. ويمكن حصر طرق تدريس الفقه في خمس طرق أساسية:


أ ـ فمنهم من يكتفي بشرح ما يكتنف النص من غموض وإبهام دون زيادة، ويرى أن الزيادة على ذلك ضرر بالمتعلم، وهي طريقة محمد بن عرفة (توفي 803 هـ)، ويترك للمتعلم حرية استنتاج ما يريد استنتاجه.


ب ـ الطريقة العراقية التي يغلب عليها المنهج العقلي، تتخذ المتن أساسا للمناقشة من خلال تصنيف معلوماته والبحث في الأدلة واستعمال القياس، دون الاهتمام بتصحيح الروايات أو الوقوف عند معاني الألفاظ على طريقة القيروانيين في تدريس المدونة.


ج ـ الطريقة القيروانية التي يغلب عليها منهج النقل في التعامل مع النص، إذ تهتم بإعراب ألفاظ النص والوقوف عند دلالاتها اللغوية، ثم نقد الروايات والتعرض لرجال السند وأخبارهم.


د ـ الطريقة المغربية، والمعروفة لدى القاضي عياض (توفي 544 هـ)، وتتميز بالمزج بين الطريقتين القيروانية والعراقية.


هـ ـ وظهرت طريقة أخرى بفاس في القرن السابع الهجري، تتمثل في اتخاذ المدونة أساسا للدرس، وإغنائه بنقل ما قيل في الموضوع المدروس من المؤلفات الفقهية الأخرى، وممن كان يطبق هذه الطريقة عبد العزيز العبدوسي (توفي 837) الذي درس بها في تونس سنة 817 هـ، ''فمن طريقه إذا أقرأ المدونة فاستمع لما يوحى، يبتدئ على المسألة من كبار أصحاب مالك، ثم ينزل طبقة طبقة حتى يصل إلى علماء الأقطار من المصريين والإفريقيين والمغاربة والأندلسيين وأئمة الإسلام وأهل الوثائق والأحكام، حتى لا يكل السامع وينقطع عن تحصيله المطالع، وكذا إذا انتقل إلى الثانية وما بعدها''، وكان يطبق الطريقة نفسها في تدريس النحو من ألفية ابن مالك، وقد ظلت هذه الطريقة بفاس طيلة القرن التاسع الهجري، وممن اشتهر بها الشيخ ابن غازي محمد القوري (توفي 782 هـ)، وقد نقل أحد تلاميذه عن مجلسه: ''إنه كثير الفوائد مليح الحكايات، لازمته في المدونة أعواما، ينقل عنها كلام المتقدمين والمتأخرين من الفقهاء والموثقين، ويطرز ذلك بذكر موالدهم ووفياتهم وحكاياتهم وضبط أسمائهم والبحث في الأحاديث المستدل بها في نصرة آرائهم، فمجلسه نزهة للسامعين، وتظهر هذه الطريقة بوضوح في الكتب المسماة بالطرر أو التقاييد على المدونة، والتي قيدها الطلبة في حلقات أشهر الأساتذة كأبي الحسن الصغير (توفي 719 هـ)، وأبي زيد عبد الرحمن الجزولي (توفي 741) وغيرهما، وكانت هذه الطريقة معروفة لدى الأندلسيين في القرن السادس الهجري، وانتقدها ابن العربي بشدة، وهي طريقة مناقضة لفكرة المختصرات، وهذا ما يفسر معارضة بعض المغاربة في القرن الثامن الهجري للمؤلفات المختصرة في عدة علوم كمختصر خليل في الفقه مثلا، مثل أحمد بن قاسم بن عبد الرحمن الجدامي الفاسي (توفي 778 هـ)، وعبد الرحمن بن محمد السجلماسي (ت 789 هـ)، ولم يدخل مختصر خليل في الفقه إلى فاس إلا سنة 805 هـ على يد محمد بن الفتوح التلمساني (توفي 818 هـ)، غير أن طريق استعراض كل ما ذكر في المسائل الفقهية من أقوال الفقهاء المتقدمين والمتأخرين وفي مختلف الأقطار الإسلامية يجعل استيعابها على الطلاب صعبا ويتطلب وقتا طويلا، وهذا ما يفسر جزئيا طول المدة الدراسية التي يقضيها الطلاب، في القرن الثامن الهجري بسكنى المدارس بفاس، التي كانت تصل في المعدل إلى 16 سنة، وهي مدة أطول بكثير من المدة التي يقضيها الطلاب بمدارس تونس التي كانت لا تتعدى خمس سنوات، وإن كانت قد تقلصت إلى مثل هذه المدة، في بداية القرن 10 هـ حسب شهادة الوزان.


بدأ النظام التعليمي في التحجر تحت ضغط التقاليد المتراكمة، مثل تقليد إلزام الطالب بقراءة ما كتبه المتقدمون والمتأخرون في المادة العلمية الواحدة، والتي تزايدت أعدادها مع مرور الوقت، ومن هنا أضرت كثرة التآليف بالتعليم.


غير أن أهم ما كان يطبع المنهج التعليمي هو الاقتصار على نقل المعارف المجردة التي لا علاقة لها بالواقع اليومي المعاشي إلا في الجانب الديني، والاعتماد على التفكير النظري المجرد، من قياس وتعميم، وغير ذلك من آليات المنطق الصوري، خاصة في العلوم الشرعية. ولم يكن المتعلمون يعتمدون على تحليل الوقائع الملموسة ودراسة كل حالة على حدة، وانعكس ذلك على تصرفاتهم وسلوكهم، فكان بعضهم لا يحسن التصرف في أمور المعيشة البسيطة، خاصة التي تتطلب العمل اليدوي... وقد أشار ابن خلدون إلى هذه الظاهرة حين لاحظ أن ''العلماء من بني البشر أبعد الناس عن السياسة ومذاهبها''، لأنهم كانوا يطبقون طريقة التفكير المجرد من قياس وتعميم، التي ألفوها، على الوقائع السياسية وأمورهم الدنيوية، فيقعون في الغلط، وقارن طريقة تفكيرهم بطريقة تفكير المعلمين، الذين لا يدرسون كل حالة من الواقع على حدة.


والظاهرة الثانية أنه يربي بعض المتعلمين على اتخاذ موقف أخلاقي من السلطة السياسية القائمة ورفض خدمة رجالها بالعلم، ويعتبر البعض العلماء المتعاملين معها من ''أشر العلماء''، والسبب في ذلك ميل أغلبهم إلى التمسك بمقتضيات الشرع التي لا تتفق دائما مع متطلبات السياسة المتقلبة، وخاصة في ما يخص بعض الأمور، مثل جباية المال من طرف الحكام وما يتبعها ـ في الغالب ـ من ظلم وتعسف وغصب، لا يتفق دائما مع مقتضيات الشرع، فكان المتعلمون ينتقدون بشدة سياسة الحكام في هذا المجال، كما فعل عبد العزيز القوري مع أبي الحسن المريني حين أمره بالخروج مع عامل الزكاة، فأجابه الفقيه: ''أما تستحي من الله، تأخذ لقبا من ألقاب الشريعة وتضعه على مغرم من المغارم؟ فضربه السلطان بالسكين التي يحبسها على عادته في يده وهي في غمدها''، وبسبب هذا الاختلاف حول حلية أموال الحكام، نجد البعض من المتعلمين يجعلون من سلوكهم اليومي مقاطعة الحكام وعدم التعامل معهم وتجنب أكل طعامهم، حسب ما لاحظه الحسن الوزان بفاس أوائل القرن العاشر الهجري: ''إنك لا تجد من بين أهل العلم والاستقامة رجلا واحدا يقبل أن يصاهر الملوك أو يواكلهم، أو بالأحرى أن يأخذ منهم عطاء وهدية، وقد سبق أن لاحظنا أن أحد أسباب معارضة الفقهاء لبناء المدارس كان هو شبهة المال المتفق عليها، واستغراق ذمم الحكام الذين بنوها، هذا الموقف الأخلاقي هو الذي يفسر عزوف الكثير من المتعلمين عن تولي الخطط الدينية والإدارية، نذكر منها عادة رفض البعض منهم تولي القضاء بالغرب الإسلامي خلال العصر الوسيط<.




عادة التدريس بالأمازيغية أو بالحضرية


لا تذكر المصادر ما يشفي الغليل من التفاصيل الضرورية في ما يخص لغة التدريس بالمغرب الأقصى خلال العصر الوسيط، باستثناء بعض الإشارات المتفرقة التي يمكن أن يستنتج منها أن اللغة العربية الفصحى لم تكن اللغة المستعملة في حلقات الدروس، رغم أنها أصبحت لغة الدين والإدارة والعلم بعد الفتوحات الإسلامية، بل كانت اللغة المستعملة في التدريس هي اللغات الشفوية المتداولة في التخاطب اليومي مثل الأمازيغية والحضرية (اللهجة العامية) في بعض المدن التي تعربت شمال المغرب. ونعلم مثلا أنه في المجال المصمودي الذي كان يشمل المغرب الحالي قبل تعرب بعض أجزائه الشمالية الواقعة شمال نهر أم الربيع، استعملت اللهجة المصمودية، التي كانت تسمى باللسان الغربي، في التدريس، بل قاموا في أول الأمر بترجمة القرآن مرتين، مرة في القرن الثاني الهجري، على يد البورغواطيين، ومرة ثانية على يد حاميم الغماري، في سنوات 313 هـ ـ 315 هـ، وبعد ثلاثة قرون من ذلك، قام ابن تومرت بالتدريس باللسان الغربي في رباط هرغة، أوائل القرن السادس الهجري، ثم في تينمل بجبل درن، ومما يؤكد التدريس باللسان الغربي ما لاحظه أحد الطلبة الأندلسيين بسجلماسة في القرن السادس الهجري من أن فقيها مصموديا هو سالم بن سلامة السوسي (توفي 586 هـ) كان قديرا على أداء مسائل المدونة باللسان البربري، مما يعني أن التدريس بهذا اللسان كان معروفا بالواحات الصحراوية كذلك، ولم يكن المصامدة متفردين باستعمال لهجتهم الأمازيغية في التدريس دون بقية المجموعات القبلية الأمازيغية بالشمال الإفريقي، فقد استعملها كذلك أتباع المذهب الخارجي، إذ نعلم مثلا أن أقدم كتاب ألف بالأمازيغية في الدين هو كتاب مهدي النفوسي، أحد مشايخ نفوسة في بداية القرن الثالث الهجري، للرد على نفاث ابن نصر الذي طعن في سلوك الإمام أفلح بن عبد الوهاب، ومن أسباب تأليفه بالأمازيغية ما أورده الدرجيني في كتابه ''طبقات المشايخ بالمغرب''، حيث قال: ''إنما وضعها واضعها باللسان البربري ليتناقلها البربر، فكالهم بصاعهم ولم يطفف، ولم يبخس ولم يَعْدُ من الألفاظ ما يفهمونه، ولا أغرب ولا أعرب بحيث يتوهمونه، كما أن الشيخ أبا مكدول الزنزفي، في النصف الأول من القرن الخامس، كان أكثر ما يروى عنه باللسان البربري''.


ومن الدلائل الإضافية على التدريس باللسان الغربي، ما وصلتنا من المصطلحات التعليمية التي استعملها المصامدة، مثل مصطلح ''تينمل''، عوض مصطلح المدرسة العربي، والذي سمي به مكان انطلاق الدعوة الموحدية، واستعملوا ''أنمال'' عوض المُدرس، والذي أطلق على زاوية بتازة هي زاوية أنمال، ومصطلح ''وكاك'' الذي يطلق على الطالب الملم بالقرآن ومبادئ الدين، وهو اللقب الذي حمله وكاك بن زلو اللمطي شيخ عبد الله بن ياسين، فقيه المرابطين.


ويلاحظ أن قبائل المصامدة غير المعربة ظلت محافظة على عادة التدريس بلهجتها إلى ما بعد العصر الوسيط، كما يظهر من حالة عبد الله بن سعيد بن عبد المنعم الحاحي، الذي كان يدرس مهمات الدين بالعربية العجمية، كما كانت بعض الكتب الدراسية تؤلف أو تترجم إلى الأمازيغية وتدرس بها مثل كتب الفقه، كرسالة أبي زيد القيرواني ومختصر خليل، وشرح البردة وغيرها، وما زال التدريس باللهجة المصمودية مستمرا إلى يومنا هذا المدارس العتيقة بسوس وفي شرق المغرب.